خالد المعالي مطارداً سراب الذكرى

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
06/07/2011 06:00 AM
GMT



يرسم الشاعر العراقي خالد المعالي، بأسلوب ينحاز الى التلقائية، ويبتعد عن التقعير اللغوي، ملامح سيرة شعرية، لا تتوخى تمجيد الذات أو صقل صورتها، بل اقتفاء نحولها وذبولها وتلاشيها الأخير، في ديوانه الجديد «أطياف هولدرلين»، (منشورات الجمل، 2011). سيرة مركبة تستلهم طيف الشاعر الألماني الشهير هولدرلين، المتوفى عام 1843، الذي جمعته مع مجايله الفيلسوف المثالي هيغل غرفة واحدة، ورؤيا معرفية مشتركة للعالم، جعلته من أكثر الشعراء الألمان تأثيراً في القرن العشرين، وبخاصة على الشاعر السوداوي بول تسيلان، في مزقه الشعرية المتأخرة التي كتبها تحت وطأة الجنون.
 
في الديوان يستعير المعالي نظرة هولدرلين التراجيدية للوجود، وعلاقته المزمنة بالزمن، في ميل واضح للتكثيف والتجريد معاً، اللذين يتناسبان، فنياً، مع تقنية تيار اللاوعي التي تسمح للذكريات بالتدفق والاندياح في كل اتجاه، بعيداً من رقابة العقل وآلياته الصارمة. ينجح المعالي في رسم ملامح، غائمة وهلامية، لسيرة خاطفة ومؤرقة، تكتفي بالنزر اليسير من التفاصيل في لجوئها للتجريد، واختبار الهواجس الأكثر جوهرية في التجربة الإنسانية، والأعمق إيلاماً، حيث إحساس الشاعر بالزمن يبلغ نقطة اللاعودة في قصيدة تحمل عنوان الديوان ذاته «أطياف هولدرلين»، يخاطب فيها المعالي طيف ذاته، مستعيراً قناع هولدرلين، في تظهيرٍ استعاري لعدمية ضارية تفتك بالأنا وعلاقتها بالأشياء، حيث تصبح الهوية، بمعناها الوجودي، نهباً لتصدع تدريجي رهيب: «كنت طيفاً وتلاشى/ أثراً على الرمل/ سطراً على الماء».
 
فالأشياء، كما يراها الشاعر، ومن قبله هولدرلين، سرعان ما تسقط في فخ الغياب، تحمل بذور تحولها معها، ولا تورث العارف الرائي سوى مرارة تلاشيها، كما في قصيدة تحمل عنواناً دالاً آخر هو «العودة في الحلم»، التي تلخص، إلى حد بعيد، سيرة المتكلم في غياهب الحلم، واصطدام روحه المدلهمة بصخرة التائهين في الزمن: «كيف سرت، رفعت رأسك/ حافياً عبرت الطريق، ثم غنيت/ غناء الحزين، أبصرت ذاتك/ ثم يممت إلى بيت التائهين هناك». تنضح القصيدة بمرارة الخيبة، وهي مرارة تقبع في نسيج القصيدة وصورها، وتكشف عن رغبة الشاعر في تفكيك وتأويل شعوره بالخسارة، وسر سقوط الحلم في براثن الصيرورة، المحكومة، أصلاً، بناموسها التاريخي، المتبدل والمتحول مثل كثيب رملي: «غير أنه لم يعد يفهم نفسه/ فكل ما لاح له سرابٌ/ وخلف السراب لاح سرابٌ». فالسائر في صحراء حياته، الباحث، عبثاً، عن معنى، لا يجد سوى السراب يصطدم به، وتهب ريح الفقدان، وتبعثر اليقين، فالحياة تنأى وتبتعد، ممزقةً، معطوبةً، تلوح مثل ذكرى مدماة، شاهداً على طلل الروح، وحطام القلب. تطل النهاية بوجهها البازلتي، وتسخر من الرحلة، وتشد الطريق إلى محنة سيزيف، التي تبدأ ولا تنتهي، مع صخرته الأسطورية، لتدون حتمية سقوط الكائن الإنساني في شرك آثامه: «اليوم، تأتي لتعرف النهاية/ التي بانتظارك، في الطريق، تغني عذابك/ لأيام تلوح بقلبك المحطم.»
 
هذه القصائد التي كتبت بين أعوام 2005 و 2010، تستعير تقنية تدوين المذكرات اليومية، كما تشير تواريخ القصائد، المتقاربة زمنياً، وهذا يفسر التلقائية التعبيرية التي تسم اعترافات الشاعر الوجدانية، كأنها، على رغم تباينها وتنوعها، تتمحور، أساساً، حول نهار واحد، أو لحظة نفسية مفصلية، تهيمن على وعي المتكلم، وتحكم رؤيته للعالم، وتضفي نوعاً من الوحدة الفنية المخادعة على مناخ القصائد وعوالمها. فالأنا، من وجهة نظر المعالي، لا مستقر لها، وتشردها هو جزء لا يتجزأ من هويتها. على هذا تنهض الذات من قاع الماضي مكلومة، يتيمة، لا جدار تتكئ إليه، ولا عقيدة أو مذهب ترجو منه الخلاص. إنها أنا الشاعر، بقدر ما هي أنا هولدرلين العزلاء، التي يسترجع الشاعر صبواتها المكسورة، حتى أن المسافة بين الشاعر وقناعه، تكاد تختفي، ليصير شبح هولدرلين ظلاً للمتكلم أو الراوي، يبحث عن ذاته في ذاته الأخرى الضائعة: «أسير إلى الذكرى/ أتابعها كشبحٍ/ أرض أحجار الطريق بخطوي/ أشد نفسي/ أحاول أن أغني/ أن أكون، أنا الذي كان، دون جدوى». هذا التعبير عن لا جدوى الكينونة مستل من الفلسفة الألمانية الحديثة التي قامت على أنقاض العقلانية الديكارتية، بعد أن أعلن نيتشه موت الميتافيزقيا، وكتب هيدغر نعيه الأعمق لمفهوم الكينونة، المحكومة بشروط انهدامها.
 
لكن المفردة الأكثر تكراراً وتواتراً في القصائد فهي «الذكرى» واشتقاقاتها، وما توحي به من شعور بالفقدان، وإدراك متأخر لحقيقة الآني والموقت، الذي تقوم عليها نظرة الشاعر هولدرلين للحقيقة، ما يجعل التقاطع حتمياً بين رؤيا المعالي ورؤيا هولدرلين، على مستوى الفكرة، وليس الأسلوب، على رغم استحالة فك العروة بين المعنى والمبنى في أي نص شعري أو أدبي. لكن طغيان الجانب الفكري أو المعرفي يجعل الثيمة الأكثر حضوراً في خطاب الشاعر هي تلك الذكرى التي تفترس نضارة الحاضر، وتستبدله، بقوة لا مثيل لها، ما يجعل الأنا تضيع وتنحرف عن مركزها: «صدى الأيام أسمعه/ أعرف الذكريات، تأتي/ الوجوه التي تحلم/ والأنا في كل مرة تضيع». هذه هي قوة الذكرى التي تقود الأنا إلى ضياعها الحتمي، وتجعل الشاعر يفقد إيمانه بجدوى التمسك بأيديولوجيا أخرى سوى الركض المجنون خلف سراب لا يمكن القبض عليه.

تتجذر رؤيا السراب، إذاً، في نص الشاعر، ويصبح الصدى بطلاً خفياً للسرد، ما يعمق فهم الشاعر الحداثي لموضوعة الأثر، الذي لا ينوجد نصٌ من دونه. الأثر، أو فلسفة الومضة العابرة، التي تعانق تخوم الغياب، وتحتفل بانقطاع الأنا عن موضوعها أو تاريخها. وهذا ما يدفع المعالي لأن يختتم ديوانه، بتظهير فداحة الفجوة بين ما كان وما سيكون، بين الماضي والحاضر، فالأشياء محكومة بنقائضها، والذاكرة تستفحل وتمتد لتفترس اللحظة الراهنة، وتحيل الواقع الصلد تصوراً طيفياً في المخيلة: «تترك نفسك مكانها/ وتمضي ظلاً، خيالاً/ خيطاً من الريح/ شيئاً لا يرى». والأثر مصطلحٌ استخدمه للمرة الأولى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا للتدليل على أنه لا يوجد معنى بسيطاً، أحادي الدلالة، فكل مفردة تختزن أثراً من مفردات أخرى، تختلف عنها بقدر ما تتقاطع معها. لكن الأثر ذاته لا يتمتع بكينونة الحضور، وهنا تكمن المفارقة، فحضوره مرهون بغيابه، إذ لا توجد إشارة كاملة بذاتها، والأثر يكمن دائماً في الظل أو الخفاء، لاصطياد علامات أخرى، تحرف المعنى عن مساره.

من هذا المنظور، يستثمر المعالي هذه العلاقة الجدلية بين الإشارة والأثر، مؤكداً على ارتحال الدال عن دلالته: «فكل إشارة تودها/ هي أحرفٌ تلوح ثم تختفي». من هنا استلهامه طيف الشاعر الألماني الذي أدمن في بداياته الكلاسيكية تخليد الأثر أو ترويضه، قبل أن ينحرف باتجاه مذهب الرومانتيكية في الشعر، تحت تأثير الفلسفة الألمانية المثالية، وبخاصة أطروحات هيغل حول جدلية المادة والروح، وإعلاء شأن الروح في معادلة التناقض الخلاق بينهما. والمعالي، كسلفه الألماني، يختار الشذرة الشعرية الجارحة، الأكثر التصاقاً بالروح الممزقة، والمنفلتة من بطش الخطاب الفلسفي، ووهم الحقيقة. يختار قصيدة الطيف أو الأثر الهارب، مستفيداً من إيقاعات النثر وتلاوينه النفسية، ومستنداً إلى غنائية وجدانية متدفقة، للتعرف الى ملامح الذات وتقلباتها، واستقراء مفردات انمحائها، في مرايا نصية تطل دائماً على هاوية الغياب.